ها هو الليل قد اقبل , وعمَّ السكون ونامت العيون , وهدأت الأصوات إلا من هنا وهناك . كنت حينها لازلت مستيقظا انتظر طرقات الباب لتعلن عن وصول العطايا من المجهول ......
مرت اللحظات والدقائق ولكن الباب لم تطرق بعد , كنت اعلم علم اليقين أن مجئ المجهول قد حان , ولكن الباب لم تطرق ... ولعلها لن تطرق ....!!
كنت معتاداً وكان معتادا....
كنت معتاداً على سماع الباب وهي تطرق عند هذه اللحظات , فانهض من مكاني واهم بفتحها مثل كل ليلة , وكالعادة لاأجد إلا كيسٌ من العطايا والأرزاق كان قد جد صاحبها بان يخفي نفسه عني .
وكان معتاداً لان يطرق الباب , ويضع الكيس ثم يرحل , دون أن يراني أو أراه .
ها هي العادة قد شُذ عنها هذه الليلة . فقد مرت الدقائق والمجهول لم يأتي , وصارت خيوط اليأس تدبُ في نفسي , ورحت أحدثها بعدم المجئ , لعله ملَّ أو كلَّ من السير في الطرقات في أناء الليل ليطرق بابي وهو بالكاد لا يعرف من أنا , أو أن حادثاً أو مرضاً قد المَّ به فحال دون المجئ .. المهم أنه لن يأتي ...
لم أكن أسفاً على كيس العطايا الذي قد لن يصلني بعد الآن , بقدر ماكنت أسفاً للمجهول الذي ربما لن يأتي من ساعتها .
حقاً لم أكن أرى له ظلاً أو شخصاً , ولكني كنت أشعر به وبخطى قدميه تطأ جادة داري ليطرق الباب . كنت أعلم بالوقت الذي يأتي فيه , واشعر بيده طارقةً للباب , وبالنور الذي يرسمه وراءه من تحت الباب حتى يرحل وهو يشقُّ طريقه في حلكة الليل الدامس . ولكنه لم يأت ....
ها هو خيط الفجر قد بزغ , وأصوات الآذان قد ارتفعت , حينها أجزمت أنه لن يأت ...
لما تنفس الصبح وأشرقت الشمس , سمعتُ أصوات الناس تتعالى من هنا وهناك . ومن دون تردد هرعت مسرعاً لأعرف ما يجري , ولكني لم أحصل مرادي فيما بغيته . فلم أفهم ما يجري .
بعدها أمسكت بأحدهم وهو يجري ويصرخ مع الصارخين , وكأنهم يمشون لتشييع جنازة . فسألته : ترى ما الذي يحدث ؟! , فأجاب : لقد قتل من كان يهب لنا العطايا كل ليله .
وقعت الكلمات على مسامعي وقع الحسام المهند . ووقفت عندها ساكناً دون حراك , ولم يسعفني لساني لان انبت ببنت شفه , وكذا الحال في قدماي اللتان عجزتا عن الحراك أو أي شئ يدل على أنهما قدماي .
وبعد هنيهه من الوقت , وبعد أن عاد الدم يسري في عروقي بالهيئة التي يكفي فيها لان انقلع من مكاني هذا لالتحق بركب (المعزين) , وعلى الفور أطلقت العنان لقدماي , وأنسلت من مكاني كما تنسلت ثعبان الماء .
وبمسير ليس بالطويل وقف طابور المعزين أمام دار بسيطة تدل على بساطة مالكها , أما لأنه لا يقدر على شراء ما هو أفضل منها , أو أنه عازف عن الدنيا وزبرجها وزخرفها .
لم انتظر طويلاً , ودون أي تفكير أو تروي , هممت إلى الباب لأطرقه . كانت هذه المرة الأولى التي اطرق باب من طرق بابي مراراً وتكرارا . ويا لها مفارقة من مفارقات الدهر – يطرق بابي فلا أراه , وأطرق باب داره ولا أراه . شتان بين باب داره وباب داري , ولكن النتيجة واحده .... !!!
وبينما أنا أحاول أن اطرق الثالثة , وإذا بشابٍ النور يملا وجهه فلا أكاد أراه , كان كالقمر في ليلة تمامه . قد اكتمل نوراً وبهاءا . وبنوبة الهلع والجزع . سألته : أين صاحب الدار ؟ أين كافلنا ؟ أين واهب العطايا ؟ أين راعي الأيتام والفقراء والمساكين ؟
عندها فجر مسامعي بما أجاب وهو يقول : إن إمامكم قد فارق الحياة بعدما خضبت لحيته من دم رأسه . إن أبا الأيتام وكافلهم لم يعد موجوداً على قيد الحياة . إن طارق الأبواب عند منتصف الليل لن يطرق بابكم بعد الآن . سيشتاق له الليل والأبواب . سيشتاق له النجم والقمر . سيشتاق له الفجر والسحر .
كان الشاب يتكلم والملا من حولي قد اذرفوا الدموع , وأنا اسمع أنين وحنين الأرامل واليتامى , وصراخ الثكالى , وبكاء الشيوخ والأطفال , كنت اسمع بكاء وصراخ من في الأرض , ولعلي سمعت بكاءٌ في السماء, كيف لا اعلم !!! لعلي سمعت أنين غير أنين الثقلين , كيف لم افهم !!!
بعدها التفت من حولي قاصدا جهةٌ صوب المجهول . وشققت صفوف النادبين بشق الأنفس , على الرغم من إنني كنت أجدهم غير شاعرين بما حولهم ومن حولهم لهول ما هم فيه , منشغلين بما بدأوا به وما ينتهون إليه , بدأت اركض وأركض دون أن احدد هدفي أو جهتي . تماماً صوب المجهول . إلى أن توقفت بي قدماي عند مقبرة أراها لأول مره . بعدها توجهت صوب قبرٍ كأني اعرف ساكنه . فارتميت بجسمي نحوه وقد بدأت دموعي تهطل كالمطر . دموع ملئها الحسرة والحرقة .
أخذت ابكي وابكي . وبدأت أناجيه قائلاً: أين أنت يا حبيبي ؟ أين أنت يا روحي ؟ أين أنت يا من عرفتك قبل أن أراك ؟ ولم أعشق أحداً سواك ؟ أين أنت يا طارق الأبواب ؟ فصرتُ للباب خليلاً . ولليل عشيقا . لأجلك نمت النهار لكي أبقى مستيقظا في الليل , لا لشيء إلا لأسمع وقع قدميك قرب باب داري .
خادمك على أعتاب بابك فافتح لي باب قبرك لكي أراك . فانا لم اعد بحاجةٍ إلى عطاياك . بل فقط لكي أراك . أتشفى بنور وجهك الوضاح , واجلس معك جلسة الوداع بعد لقاء قصير . لقاء العطاشى وقد صار الماء عنهم صعبٌ وعسير . ولكن أنّى الجواب , وقد حال بيني وبينك الموت المرير .
وبينما أنا بهذه الحالة وإذا بيدٍ من القبر قد مُدّتْ مبسوطةً كما كانتْ . وإذا بهاتفٍ من وراء الضريح وهو يقول: هذه يد الخير التي طالما مُدّت مبسوطةً في حياتي . ستبقى ممدودةً حتى بعد وفاتي ...
في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)
حيدر الخرساني